المستعرضرأي

علي شندب: موريتانيا ولبنان نموذجان على الفساد ومكافحته

الفساد، وتبييض الأموال، والإثراء غير المشروع، وتورّط مصارف ومصرفيين في تحويلات مالية كبيرة الى الخارج، وأموال غير شرعية مجهولة المصادر.. كلها وغيرها عناوين مفصلية تقف خلف أسباب إنهيار الدولة اللبنانية اقتصادياً ومالياً واجتماعياً في ظل طبقة سياسية موغلة ومتوغلة في الفساد ونهب المال العام والإثراء على حساب الدولة والشعب، ولعلّ أهمها ما بات يعرف بسرقة أمال المودعين وتبخرها بعد الإنهيار الدراماتيكي وغير المسبوق لقيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الاميركي.

لم يعد سرّا القول أن الفساد بات يشكل العمود الفقري للدولة اللبنانية والذي نما وترعرع في ظل تواطؤ وتورط أطراف المنظومة السياسية المالية المتحكمة بالواقع اللبناني، وقد كشف حجم الانهيارات المتوالية في قطاعات الدولة بفعل مافيات وكارتيلات الدواء والغذاء والكهرباء والنفط عن مدى حجم الفساد وصلابته ومناعته بوصفه العمود الفقري والشاهد الكبير على استشراء فساد وإفساد المنظومة التي تخادمت فيما بينها وفق المقولة الشهيرة “غطّوا على سلاحنا نغطي على فسادكم، وغطّوا على فسادنا نغطي على سلاحكم”، وهي المقولة التي عكست حجم تداخل الدولة بالدويلة، فتحولت الى معضلة مستعصية، حتى بات فصلها عن بعضها مطابق تماماً لفصل “الدبس عن الطحينة”.

إنه الفساد الذي يشرّع اليوم الأبواب أمام التدخل القضائي الاوروبي، حيث تزور وفود قضائية وأمنية من فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ بيروت للتحقيق في ملفات فساد وتبييض أموال واثراء غير مشروع، لأن مسرح بعض هذه العمليات المشبوهة كان عبر الأراضي والمصارف الاوروبية من جهة، ولأن القضاء اللبناني مستسلم لعجزه عن التحقيق في هذه الملفات من جهة ثانية، ولأنّ لبنان موقع على “إتفاقية الأُمم المتحدة لمكافحة الفساد الصّادرة عام 2003” والملزمة للدول الموقعة عليها من جهة ثالثة.

يضاف لذلك وفد قضائي فرنسي مرتقب وصوله بعد عشرة أيام للوقوف على التحقيقات الخاصة بانفجار مرفأ بيروت لوجود ضحايا يحملون الجنسية الفرنسية، وذلك لأن القضاء الفرنسي كان قد سطّر إستنابات قضائية لم يتلق عليها رداً بسبب إيقاف المحقق العدلي طارق بيطار ودخول ملف التحقيق في ثلّاجة التسويف السياسي الذي أخرجته منها بالأمس عملية توقيف الناشط وليم نون بأمر قضائي على خلفية كلام غاضب أطلقه ضد قصر العدل في بيروت، الأمر الذي استفزّ أهالي ضحايا انفجار المرفأ والرأي العام اللبناني الذي يتحدث صراحة عن تحقيق الجلاد والمتهم مع الضحايا وأهاليهم. هذه الواقعة مع سلوك نافر لبعض القضاة والقضاء أفقد المؤسّسة القضائية هيبتها بفعل تحول بعضها الى ألعوبة وأداة انتقام استنسابية بيد بعض أطراف السلطة ما جعل بعض السلوكيات القضائية متطابقة للسلوكيات الميليشياوية.

ما تقدّم يشي بأن الفساد ضرب هيبة المؤسّسة القضائية أيضاً بفعل استزلام بعضها لمتنفذي سلطة المنظومة، ما سهّل وسوّغ تدخل القضاء الاوروبي والخارجي وسط انقسام أطراف المنظومة بين مؤيد ومعارض لهذا التدخل الأجنبي المتجاوز لسيادة الدولة، بذريعة تبييض الأموال والإثراء غير المشروع والفساد الذي عوقب به حصراً وفق قانون ماغنيتسكي رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل.

واذا كان قدر لبنان الذي تمكّن منه الفساد والإثراء غير المشروع التهاوي بسرعات جنونية باتجاه انهيارات مالية واقتصادية لم تعرف قعراً لها حتى اللحظة، فهذا لم يكن مطلقاً قدر موريتانيا التي تدخل في معركة حاسمة ضد الفساد وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع واستثمار النفوذ والسلطة. فما الذي يجري في موريتانيا التي للمناسبة سارعت قيادتها أثناء انفجار مرفأ بيروت الى رفد لبنان ومساعدته بطائرتين محملتين بأطنان من السمك لقوا نفس مصير شاي سريلانكا الذي قدّم للرئاسة اللبنانية. لكن ما الذي يجري في موريتانيا على جبهة الفساد؟

انه ما يصطلح على تسميته بملف العشرية (2009/2019)، والمقصود بها فترة حكم الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبدالعزيز، والذي شكلت لجنة تحقيق برلمانية في ملفات وصمت عهده بالفساد وتبييض الأموال واستغلال وصرف النفوذ الرسمي في الإثراء غير المشروع. وفي عام 2020، أحالت لجنة التحقيق البرلمانية نتائج تحقيقاتها إلى القضاء الذي وجّه للرئيس السابق واثني عشر شخصاً من وزرائه وبعض رجال الأعمال اتهامات بملفات الفساد والاثراء وتبييض الأموال وخلافه، كما جمّد القضاء الموريتاني أموال وعقارات للرئيس السابق بقيمة تبلغ مئة مليون دولار اميركي.

لكن القضية التي مسّت مشاعر الموريتانيين وجرحت كرامتهم فتمثلت بغدر رئيسهم السابق بضيف موريتانيا ونزيل مضاربها مدير المخابرات الليبية السابق عبدالله السنوسي بعد اعطائه الأمان والحماية والضمانة بعدم تسليمه، لكن ولدعبدالعزيز نكث بوعده وسلّم السنوسي الى أعدائه مقابل رشوة مالية كبيرة من حكام طرابلس الجدد، الأمر الذي أشعر الموريتانيين بلوثة عار جرّاء فعلة رئيسهم بحق السنوسي الذي كان له فضل ودور في وصوله الى السلطة وتدعيم أوتاد حكمه. ومن هذه الواقعة الخطيرة وضع الموريتانيون رئيسهم تحت سيف الرقابة المشدّدة الى أن اسندت اليه الاتهامات المذكورة.

القضاء الموريتاني الذي ختم التحقيق بملف العشرية أحال المتهمين وفي مقدمتهم الرئيس السابق الى المحاكمة التي انطلقت جلساتها التمهيدية الخميس الماضي حيث مثل المتهمون إفرادياً أمام محكمة الفساد وتليت عليهم التهم المنسوبة اليهم كما تليت عليها حقوقهم ومنها تكليف محامين للدفاع عنهم في المحاكمة التي ستنطلق بعد عشرة أيام. وقد جهد الرئيس الموريتاني السابق للافلات من العقاب والمحاكمة التي يصر على أنها محاكمة سياسية، وبعد إخراجه من السجن لأسباب صحية، ضبط ولد عبدالعزيز متلبساً مرتين بمحاولة الفرار الى خارج موريتانيا.

لبنان وموريتانيا نموذجان للفساد والإثراء غير المشروع والتغوّل على الدولة، وللمعالجات المتناقضة، بين إجراءات الدولة الوطنية كما في موريتانيا، أو إجراءات التدخل الخارجي ولو من باب مكافحة الفساد وتبييض الأموال كما في لبنان

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى