عندما صور بيرام موريتانيا كأنها معسكر أوشفيتز/ المامي ولد جدو
2020-02-22
المامي ولد جدو
يحتل -هذه الأيام- خطاب النائب في البرلمان الموريتاني بيرام ولد الداه ولد اعبيد في جنيف، واجهة الأحداث في مواقع التواصل الإجتماعي والإعلام عموما، بعد أن وصف بلده بأنه يعيش نظام فصل عنصري، على غرار جنوب أفريقيا تسعينات القرن الماضي.
في إعادة لمعزوفته المتكررة عند تنصيبه في أحد المحافل على وتر “الاستعباد”، ليبدو للحاضرين و المشاهدين وكأن موريتانيا تشبه معتقل أوشفيتز النازي، أحد مظاهر الهولوكست التي أورثت احتلال الصهاينة لأرض فلسطين، برعاية من الغرب.
خاصة من سويسرا التي احتضنت المحفل الصهيوني، حيث عقد المؤتمر الافتتاحي للمنظمة الصهيونية، بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل، وهي الدولة التي اطلق منها بيرام خطابه “الهولوكستي”.
إن عمله الذي اختاره عن تبليغ مشاكل منتخبيه للحكومة كالتعليم والصحة والبطالة من تحت قبة البرلمان، لا يتعلق بنصب تذكاري في أذهان مستضيفيه “للاستعباد” بقدر ما هو نصب باسم الاستعباد.
والمفارقة أن مركز راؤول فالنبيرغ سمي على دبلوماسي سويدي يحكى أنه انقذ آلاف اليهود من براثن النازية في بودابست، وهو المركز الذي جلب بيرام إلى جنيف، وهو مركز جل رؤسائه الشرفيين ومديرته التنفيذية يعتنقون الديانة اليهودية كما تظهر تعريفاتهم في موسوعة ويكيبيديا.
لقد كان التضامن مع استهداف النازية لليهود -من قبل الحلفاء في الحرب العالمية – ظلما لشعب آخر، حيث اغتصبت حقوق الشعب الفلسطيني، لإرضاء مشردي اليهود، فهل يحاول بيرام تحميل أحفاد شريحة موريتانية أخطاء الماضي ومآسيه، بعد أن صور بلده وكأنها كانتونات عنصرية لا يمكن لذوي البشرة السمراء أن يصلوا فيها للمناصب السامية، في النظام والحكومة وغيرها من القطاعات، مستحضرا مشاهد بشعة يحاول أن يسقطها على عالم اليوم، في محاكمة لمآسي الماضي واستخراجا لمقترفيها من أضرحتهم ونصب المشانق لهم أو لأبنائهم اليوم حتى يستريح بيرام السويسري.
تحضرني هنا مقولة للوزير الأسمر الحالي “إبن الحمال” البرفسور الطالب ولد سيد أ حمد الذي كتب مقالة قال فيها بأنه على أبناء لحراطين أن لا يلعقوا جراح الماضي وإنما عليهم الانطلاق من كونهم لم يعودوا عبيداً.
لكن الحقيقة أن قضايا حقوق الإنسان بضاعة رائجة في المجتمعات الغربية، وتجد لها آذانا صاغية من المنظمات المجتمع المدني هناك، بجميع مستوياتها من قضايا مثليي الجنس والديانات والمرأة والطفل، والاتجار بالبشر والأعضاء، والشواذ.
وهؤلاء المتضامنون الحقوقيون لا ينتظرون حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
بدأت حكايتي -أو الغداء الأخير- مع النائب بيرام عندما كتبت مقالا بعنوان “بيرام النائب الذي دخل البرلمان من داخل السجن”، وكان النائب حينها موقوفا في الزنزانة بالسجن المدني، وتتحدث بعض التحليلات عن مساعي رفع الحصانة عنه أو إلغاء النتيجة بوسيلة ما من دخل الغرفة التشريعية التي يحوز فيها الحزب الحاكم حينها على الأغلبية في نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
لكنني حاولت أن أنصفه لأن حريته كانت مقيدة، فسعينا لمنحه مساحة ولو قليلة من صفحات الجريدة التي اترأس تحريرها كي يصدح بما يفكر به، ويزمجر كما يشاء، رغم ذرابة لسانه التي جلبت لنا الكثير من الانتقادات والملاحظات، حيث كنا نحاول إنصافه في ظل التحضير للمسيرات ضد خطاب الكراهية حينها، ومساعي سن القوانين المجرمة لذلك الخطاب وتأليب الشارع والإعلام من السلطة آنذاك.
اتصل بي بيرام من داخل السجن وقدم لي نفسه، وكان يطلب مني بشكل متكرر نشر بعض التقارير عن الوقفات المتضامنة معه من أنصار حركة إيرا في الداخل والخارج، والتي تعرض بعضها لقمع عنيف من الشرطة بحجة عدم الترخيص لتلك التظاهرات، وهو أمر كنا نقوم به بشكل اعتيادي إلا أنه كان يزودنا بصور تلك التظاهرات من خارج البلاد.
كنا متجاوبين تعاطفا مع سياسي مسجون، وسعيا لمنح الجميع مساحة لإبداء آرائهم المخالفة، نظرا للمهنية التي نحاول التحلي بها، والتي اثنى عليها بيرام نفسه في مراسلاته معي شخصيا على الخاص، فكثيرا ما أشاد بالخط التحريري للوكالة، وبي شخصيا ووصفني بالصحفي المهني الذي نسعى لأن نشجع امثاله وفق تعبيره، فما عدا مما بدى؟.
بعد خروج بيرام من السجن كنت على تواصل معه، وكان يتصل بي باستمرار لطلب الحضور لأنشطته الإعلامية، وقمنا بتغطية غالبية خرجاته الصحفية، و التي كانت تحمل رونقا خاصا لكونه اصبح ولأول مرة نائبا برلمانيا خارجا من السجن.
انفردنا بإجراء أول مقابلة صحفية مع بيرام كنائب برلماني أعلنت نتيجة نجاحه، وبات من الواضح أن خطابه ورسائله تسير باتجاه التمهيد للانتخابات الرئاسية التي ينوي خوض غمارها بقوة، طلب بيرام قراءة المقابلة قبل النشر، ووافقنا على ذلك وقد اقرها ، وبقي لنا التعليق على اجوبته حيث كان ذلك بمثابة النقطة التي افاضت الكأس.
وصفنا بيرام بأنه كان يدافع عن حقوق الأرقاء السابقين وبات يدافع عن البرجوازيين، بعد الثناء الذي اطلقه على رجال الأعمال المعارضين في الخارج من أمثال محمد ولد بوعماتو.
الشيء الذي لم يرق للزعيم، وبدأت سلسلة المضايقات والتجاهل تتالى في حقنا، وبدا أنه لم يعد مرحبا بنا، ووصل الأمر حد تهميشنا خلال تغطية خطاب إعلان الترشح في دار الشباب وغيرها من الخرجات، حيث تعمد بعض “حوارييه” تجاهلنا بشكل واضح كردة فعل على حرية إبداء رأي مخالف على اجوبة المقابلة.
كان واضحا أنه حساس لانتقاده، رغم قاموسه اللفظي الذي يحمل شحنات بالغة من القدح، فهو لا يريد أن تخدش صورته لدى انصاره، إلا ويرد بقوة كما قال”كلمتي امتين وعلبتي امتين”، و يريد بالمقابل من الجميع أن يضربوا له الدفوف طربا لكلماته، وتغنيا بمواقفه، فرصيده السياسي متوقف على درجة العصبية، ومستوى الأدرينالين .
رغم كل تلك المضايقات التي كانت انعكاسا لتذمر “الزعيم” في وجوه بعض مساعديه، لم أنل نصيب الصحفي الذي طلب صراحة من انصاره مهاجمته بأقسى العبارات، لأنني ببساطة لست متطفلا عليه، فبيرام نفسه كان يراسلني وهو في السجن، ويطلب منا خدمات إعلامية، ويصفني بالصحفي المهني ويشيد بما نقوم به، فما عدا مما بدا؟ .
كان حفل افتتاح الحملة الانتخابية بلون واحد بامتياز، باستثناء عبد السلام ولد حرمة ونائبه كان جميع المتدخلين من لون واحد، لقد اصر بيرام أن يكون الشعراء ولمغنيين والفرق الموسيقية من لون واحد، في حملة مرشح لرئاسة موريتانيا العميقة والشاسعة بكافة أطيافها وألوانها وأعراقها.
الخلاصة التي توصلنا لها أن بيرام كائن مرهف الإحساس لا يحتمل الخدش، حقوقي يمنع على الآخرين ممارسة حقهم في نقده، لأنه يتزين بالميداليات الدولية من مختلف الأحجام والأنواع، والمعادن، تثور حفيظته لمجرد التعليق على خطاباته و خرجاته الإعلامية بشكل لا يلائم تطلعاته، فيظهر عاقصاً قرنه.
لم نشأ أن نكتب ردة فعلنا على معاملة بيرام المغايرة لنا اثناء الحملات الانتخابية، حتى لا يتم تفسيرها على انها دعاية ضده كمرشح لصالح أحد منافسيه.
لقد صليت العصر إماما لبيرام في بيته، وصلينا معا الجمعة في مسجد الدعاة في الرياض، وكان بيننا خبز وملح، وقدمت له خدمات إعلامية عديدة بدون مقابل، إيمانا منا بمساحة الرأي للجميع، فكان الجفاء هو نصيبنا منه، لمجرد أننا انتقدناه…. هكذا هو بيرام الكريستالي.