كتابنا

دموع البقر…

قلة من الناس يدركون علاقة المنمي ببقراته .

فعجز ” أم رثمة ” أو “اتويس ” أو ” أم جعبة ” ، عن القيام ليس مجرد حدث عادي يتعلق بالصيف وندرة الكلأ .

إنها قصة وفاء تحيطها مشاعر خاصة .
هناك حديث شعوري سرمدي وشفاف يربط بين المنمي وبقراته ، فهي بالنسبة له ليست مصدر عيش فقط كما يعتقد الكثير من البلغاء والخلطاء المتمدنين .
للبقر علاقة مع مالكه لا يدركها إلا هو ، فالبقرة تحزن وتدمع وتتحدث لغة الإنسان .
هي فرد من العائلة في الشرق الموريتاني ، وأبناؤها يتنقلون مع الزمن رفقة أبناء العائلة ، إنهم يحسون بها كما لو كانت مرضعة تستوجب فطرات حليبها سريان الرحم المشترك في دماء الأجيال المتعاقبة من العجول والأطفال .

” أم رثمة ذا بعد بطعيمتو ”
هكذا قال لها أحدهم حين غلبها الوهن عن تميز ” متري المرقن ” ،وحين غاب وعيها عن ما كانت تستلذ وتستطيب بينما كان قلبه يعتصره إلى حد قرر فيه الحديث معها بلسانه ولغته .

” يكلع بوك ماتعرفي نواشة ساهلة ” ؟
تلك قصة أخرى من ميتولوجيا الشرق ،تحكي عن مكانة البقرة وما ينبغي أن يكن لها من احترام حتى بعد أن لم يعد منها عائد غير ” نواشتها ” .

خرجت ذات صيف ” فعزيب ” رفقة والدي ، وقطعنا مسافة جدب لا تقاس بمعايير الزمان والمكان ، وإنما بتامل أعصاب البقر وهي ترتعش من الإعياء .

وذلك المعيار معيار يمتحن الذاكرة ، فهاهي البقرة التي منحت ضرعها ورحمها طوال تلك السنوات ، تنتخي مالكها أن لا ينسى الجميل .

لقد كانت طوال حياتها ” ترزم ” و تقوم من مبركها لسببين اثنين ، عندما يصيح ولدها وعندما يناديها مالكها باسمها .
لقد ظلت تستيشر بصوته كما تستبشر بصوت ولدها .
إنه الآن يدرك عمق حزنه وهي لم تعد قادرة على التفريق بين ما يحتاجه منها و ماتحتاجه منه .

مازالت تحاول أن تفرح لرؤيته وتقوم من بركتها حين تسمعه ، لكنها تحاول عاجزة هذه المرة .

هو وحده من يدرك أنها تشعر بالأسف لعجزها عن منحه ما يحتاج .
هو وحده من يدرك أن عينها لا تفقد بريقها حتى وهي تغالب الموت .

قطعنا مسافة جدب (40كم) لنصل وقد عجز القطيع عن حمل بطونه الخاوية .

تتخطفنا شهب الخوف التي لا يعرفها أكثر الساسة والمثقفين .
فنحن نخاف بواكير المطر ( يكند اليقر ويبتل ) فيموت دون مقاومة .
نحن نخاف ولادة المخض في الوقت الذي ندرك ثقل الحمل على جسد واهن .
فالبقرة عندما تلد ينهكها يوم المخاض ونزيفه .

لا شيء في أفق الأمل لا ينذر بالخوف .

كل ذلك ورب القطيع يحس بألمه الخاص بشتات عائلتيه .
فهو بعيد عن فلذات كبده يخاتل الأمل في أصقاع الجدب ، وهو قريب إلى جوار الموت ينازعه فرصة بقاء لهذه أو تلك .

دعوني هنا أخبركم بأن هذا المنشور ليس منشورا إقتصاديا يلفت النظر لكوارث الجفاف وأثرها على الإقتصاد والتنمية .
بل هو منشور يتعلق بنوع الحياة و زخمها .
منشور يتعلق ببنية إجتماعية تتعلق بالإنسان وعلاقته بالحياة .

أتحدث عما لا يعرفه الكثيرون منا

أتحدث عن دموع البقر

عار عليكم أن تتحدثوا عن خيبات ميسي والأرجنتين
بينما في أقاصي الشرق.. يبكي البقر .

محمد أفو

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى