الاخلاقية تكاد صور الشلل الوظيفي الذي نكبت به المنظومة ألأخلاقية في مجتمعنا ، والانقلاب القيمي الذي أطاح بتاج المرؤة من على هامته ، أن تكون مرحلة متقدمة من مراحل تطور حالة مرضية إن لم يُتدخل للحد من اِستشرائها ـ ستتسبب في تآكل نسيجه ألعلائقي، وانفراط شبكة العرى والوشائج الاجتماعية التي طالما جنبته ويلات وكوارث بدت محدقة .لقد وجدت هذه الحالة ـ في الرؤى الخاصة والعامة للنخبة السياسية الحاكمة والانتلجانسيا الوطنية عموما ـ البيئة النموذجية لحضانتها ومدها بمستلزمات التطور والنماء ، في حين تولت الأنماط السلوكية ، والمعاشية للفئات الرديفة ، أو الحاشية ـ إن شئت ـ أو البطانة ـ دور الناقل ألأمين لها ، لتعم ومن ثم باقي الجسد الاجتماعي ، محدثة فوضى معاييرية أعمت الضمير الجمعي ، فسلبته خاصيتي الردع والتمييز بين الأشياء صالحها وطالحها ، معممة في الوقت نفسه ، جوا من الارتباك الفكري العام ، تداخلت بسببه في أذهان العامة الحدود بين الخير والشر، وبين الحق والباطل ، حيث غدى أمر ترسيم تلك الحدود ، يتم في الأغلب الأعم وفق هوى ألانا ضيقة ألأفق غالبا ، وحسب تقلبات الهوى ، والمزاج الإنساني دائم التبدل ،والتحول . لقد أدت السقطة المريعة في أتون السيبة (الاطارالتارخي ، الذي تبلورت في كنفه جل المفاهيم والمثل الأخلاقية في مجتمعنا ) ـ منذ لحظة ما سمي بالخيار الديمقراطي ـ إلى ظهور مزاوجة غريبة بين “سلبيات التوأمة التقليدية للمرؤة والشريعة ” ، وبين سلبيات المد الكاسح لأخلاق المنفعة والفردية ، المتحدرة من فضاء الحداثة الثقافية والاجتماعية والسياسية الأوربية ، والتي فرضت على المجتمع فرضا دون أن يتشربها . غطت بتلويناتها المختلفة كل ساحة الفعل الوطني والشعبي على حد سواء . ولاِن كان الأثر المدمر لهذه المزاوجة برز أكثر ما برز في ساحة الفعل السياسي ، إلا أن تأثيراته الارتدادية امتدت لتطال ساحة الفعل الأخلاقي . مولدة حالة من الميوعة السلوكية ، والازدواجية الفكرية ، طغتا على توجهات الجماهير الوطنية ، وعلى المعايير التي على أساسها تتعامل مع وجودها الذاتي ، والموضوعي على حد سواء ، وهي المعايير التي تحكم ، وتوجه في النهاية السلوك الفردي و الجماعي وتحدده ، كما توجه وتحكم ، طبيعة ردود الفعل والاستجابات إزاء كل الظواهر الحياتية .إذ ارتفع منسوب التناقض في الأرضية التي تنموا هذه المعايير في أحضانها فانبثقت المواقف والتوجهات وهي مشبعة بطابع انتهازي محاباتي منافق في تعاطيها مع الواقع واكراهاته ،لكنها مشدودة في نفس الوقت إلى ماض لم يفقد سطوته وقدرته بعد على التأثير. ويتعلق ألأمر هنا ـ على مستوى الممارسة العملية ـ بذالك المسخ من ألأفعال وردود الأفعال، والمواقف فاقدة الأصالة والهوية، والتي يحار المرء وهو يتأملها، ويصاب بالضجر وبالاشمئزاز. والتي ألتي فشت بين الجميع فشو النار في الهشيم ، إلى حد جاز معه وصفها بأنها بالفعل تمثل كارثة أخلاقية .والمتأمل في الواقع الأخلاقي في مجتمعنا ، لابد من أن يصاب بالدهشة وبالذهول ، إزاء ذالك الانكماش المريع ، والتقلص المستمر لمساحة المشين ، والمرفوض ، والممنوع أخلاقيا ، وفي المقابل ذالك الاتساع المخيف لقاعدة المقبول ، والمسكوت عنه ، والجائز. ولا ينطوي ألأمر على أية ايجابية قد تتبادر إلى أذهان أولائك الذين يرون في كثرة القيود والمحظورات الأخلاقية عائقا ، يحول دون الشخصية وتلمس طريقها بشكل حر ومنطلق ، فالأمر هنا مختلف تماما .والواقع أن ضرورات التأقلم مع واقع “السيبة” السياسية الذي كرسته توجهات القيادات التي حكمت البلاد في الماضي ، وتحكمها الآن ، والإباحية الاقتصادية والاجتماعية التي أرست دعائمها حكوماتها ـ فـرضت على الإنسان الموريتاني ، ليس فقط التجرد من كرامته وعزة نفسه ، بل ومن إنسانيته أحيانا ـ وإنما فرضت عليه بالإضافة إلى ذالك الانقلاب على كل شيء ايجابي في ارثه الأخلاقي ، وتبديد والعبث برأسماله الرمزي . فتشوهت طريقته في تقييم الأشياء ، والحكم عليها ، وساء أسلوبه في التعاطي معها وتدنى ، إذ تبدلت المسميات ، وفقدت المصطلحات هويتها ، وطفق الجميع بلا هدى ، كل يسوغ لنفسه مايشاء ويستبيح ، متحججا بما عن له من ذرائع ومبررات ، ومما أفرزته سنوات عجاف من الظلم والقهر ومن الغبن المفروض ـ من مفاهيم وما أنتجته من اعتبارات . وفي حركة مقيتة لإعادة توصيف الأفعال والمواقف والممارسات بغية تسويقها أخلاقيا واجتماعيا ـ دون الأخذ بعين الاعتبار للسياقات المغايرة التي أنتجتها في الأصل ـ أمست السرقة نوعا من البطولة ” السيبة،واتهنتيت” ، والكذب نوع من الحذق والذكاء “السيبة، والتقية” ، وغدت الوصولية براعة والنفاق أرقى أشكال الممارسة السياسية ” المكيافيلية ، والغاية تبرر الوسيلة ” … وحتى تلك الأفعال والممارسات ، والتي كانت سببا لتهميش البعض وعلة دونيتهم ضمن تشكيلة القبيلة البيظانية ، أمست ممارستها أمرا اعتياديا من لدن علية القوم ” وجهاء، علماء” بصفتها الوسيلة الوحيدة للفوز ولو بالفتاة من “مائدة اللئام أعني خيرات البلد ومقدراته . وأعني هنا ، التزلف والنفاق والتذلل ، والمبالغة في التعظيم وخلع الألقاب والأوصاف الحميدة وغيرها من أشياء قضت وبشكل مبرم على ما نعتبره الحياء العام للمواطنين … يتبع