في البدء..
طالما تَهيّبتُ الكتابة عن القُدْوات النبلاء من أمثال خالِنا ووالدنا: محمد مالك الداه بن محمد الأمين بن اب عيني، لكونه أَغَنّ الغصن، غنيّ السيرة، ثِرِيَ المسيرة، ولا يَكتُبُ عادة عن الكبار والأعلام إلا من كان على شاكلتهم في امتلاكِ أدوات التاريخ وحيازة الدراية، وقد قال: العقاد مرة “إنه لا يُحسن الكتابة عن العباقرة إلا عبقري”، وعبقريات العقاد معروفة بدءا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وانتهاءا بالخلفاء الراشدين، وساقَ: محمد الغزالي هذا المعنى في تقريظه لكتب: محمد أبي زهرة عن الأئمة الأربعة الفقهاء وابن حزم، فقال:”لا يَكتُبُ عن الأئمة إلا إمام”.
ومن حسن حظى أني عايشتُ المغفور له: الداه، فهو سَمِيُّ جَدِّي: محمد مالك ولد عبد الل ولد محمد الأمين، وعرفتُه عن قرب.
فحقه علينا -رحمة الله عليه- أن نكتب عنه، وإن كانت خِلالُه معلومة، وسجاياه مشهودة، وقد خَلّدَت الرجلَ أفعالُه الحسنة ودَأْبُه الراسخ في العلم والعبادة والمروءة.
رحلة المنابر والمآذن..
نشأ خالُنا يتيما، وطلب العلم صغيرا، فتحصل على (الردفه) أو (الهبطه) مرحلةُُ قبل شهادة سند الإجازة، في قراءة الإمام نافع بروايتي ورش وقالون التى أتقنها رسما وضبطا وقراءة وتجويدا، وشيوخه في القرآن: بشيري ولد عبد المالك، وابراهيم فال ولد بوبكر، ثم درس الفقه وأكمل سفر مختصر خليل، على ما حاز من علم الآلة، وفن التاريخ وطول الباع في مجالات الثقافة.
سامَتْه أمُّه: خيره امِّى بنت محمد مالك ولد عبد الل ولد محمد الأمين على البقاء والمكوث في المحظرة أمدا طويلا، لكن ابنَها الشاب الذي كانت تُفاخر به، وتستشيط فرحا عند ما تناديه: (بويانه محمد مالك) لم يعد يَجِد في المحظرة ما يشجعه على الاستمرار، بعد وفاة أخيه: جودت، وبقائه وحيدَ أخواتِه، اللائى كفَلَهُنّ أولا، ثم زوّجهن ثم ودّعُهنّ بالجَهاز والشّورة، وهنا بَدَت على خالِنا ووالِدنا: الداه سماتُ الطموح ليشتد عوده، ويحدِّث أُمّه بثقة أنه شَبَّ عن الطّوق، وأن ساقَه الذي تُعَرِّضُ به -لِتَعَبِ جسمه- يكتنف مائة ناقة، وغادر الشاب اليافع المحظرة صَوْبَ معركة الكَسْب وتأمين المستقبل.
نقلتُ عنهُ -رحمه الله- سماعا أنه مرض مرة، فالتمستْ أمُّه: خيره امى من خالِها: زعيم القبيلة وسيدها: حنن ولد الشيخ ولد سيدي ولد هنون، مرافقة الداه له في رحلة استشفاء إلى النعمة عندما يَهُمُّ الأول بالسفر إليها، وكان: حنن شديد المحبة للداه والشفقة عليه، مع إجلال وتقدير أسبغه عليه في هذه الرحلة، وذلك أن: حنن كان كالعادة في طريقه إلى النعمة يأتَمُّ في استراحاته بأكابر الفقهاء والصلحاء من إدوبلال، والوسره، وإديلبه، في كل قرية يمر بها، وهذه المرة كان يشير في كل استراحة على الفقهاء والأئمة أنه انتدَبَ هذه المرة لنفسه و(صربته) -وزراؤه وكبار معاونيه- إماما، وعند ما يحين وقت الصلاة يقدم: الداه للإمامة فيأتم الجميع به إلى أن وصل قصر النعمة ومحل إقامته بدار شيخ الدشره: مومن ولد أهل الدي، مما يعكس عمق العلاقة ،وإجلال ذوي الهيئات، والصلة الوثيقة تاريخيا بين بيت السيادة والزعامة في القبيلة وبيوتات التصدر في الفقه والفتوى والقضاء والمروءة، كبيت أهل اب عينى، وقد قال: سيد أحمدن ولد بون قديما في بطحاء ولاتة بحضرة أحمد محمود ولد امحيميد وسيدي المختار ولد شنان (إلَ قَدْرْ ابّ عيني) فصارت مثلا، يعنى أنه لا أحد يشاكله في المنزلة والمكانة والمرتبة.
وحدثتني عمتي: لاله الطاهره بنت عبد الل ولد محد الأمين، أن ابنَ خالِها وابن عمتها: محمد مالك الداه، وهَبَها: جَمَلا فَحْلا، -عَزَّ عليها الحصولُ عليه- لتدفعه في خُلْع لتسوية مسألة اجتماعية، مبادِرََا قبلَ إخوتها وبني عمومتها.
مسار المشاركة والحضور والتأثير..
لم يجد الفتى بُدََّا من المحاولة، فقصد بعض الجِيرة مبتغيا جمع إعانات، وأَسَرَّ إليه: خطري ولد شيخو -ناصحا- ليس هذا السلوك من شيم عائلتكم (أهل اب عيني)، وكان لِما لَفَتَ نظرَه إليه تأثيرُُ ووقْع كبير على نفسية الشاب، ليقترض الأخير من الأول ثمانين كبشا، ويبدأ رحلة الكد من جديد، والتي قادته إلى يُسْر الحال وطيب العيش وحياة التّرَفُّه، وهنا طَوّحَ الرجل مالي وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وخالط أقواما من فصائل مختلفة، كالشرفاء، والاقلال، وأولاد محمد، وتجكانت، وكنته، ومشظوف، والذين وجدوا فيه ضالتهم من علو الكعب في علوم الشريعة واللغة العربية والتاريخ والثقافة العالِمة، فكان مرجعيتهم في المشورة والصلح وسيدهم في البذل والتدبير والمشاركة الفعالة، وهنا امتزج صفاءُ البداوة مع ما يضفيه السفر والتعامل ومعايشة الآخرين من حنكة وتجربة، فصاغ مجموع تلك الاعتبارات شخصية مخضرمة فريدة في المحافظة والتربية وسعة الأفق، وأكسبته صحبة المذياع وإدمان سماع برامج الإذاعة ونشراتها تبصرا ووعيا جديدا منقطع النظير، طَوّر مؤهلاته الخارقة وتوقّدَ ذهنه، ووظف ذلك في السفارة الموازية الناجحة، وكانت متابعته الدائمة لواقع العرب وتطور ثقاقة الغرب الإسلامي، عامل بحث واهتمام متواصل أضفت فراسة وراكمت جملة اكتشافات، وعلى مسحته المحافظة فقد تأثر بأمجاد القومية العربية وانتصر لكبرى قضايا الأمة -فلسطين- وأُعجِب بعبد الناصر والمَلِكَيْن: فيصل والحسن الثاني وبن بله، وزعماء أفارقة آخرين يَحْكِى عن غيرتهم على القارة السمراء ومقارعتهم للاستعمار كالزعيم الغاني: كوامي نكروما، ورئيس زائير: موبوتو سي سيكو، ورئيس الغابون: عمر بونكو، ورئيس ساحل العاج: فيليكس أوفرى بوانيي، وَهَبَ محمد مالك الداه بن اب عيني نفسه للعبادة والمروءة، وكان كثير المطالعة، وعاصر من العلماء: ابُّو ولد جودت ولد اب عيني، ومحمد الأمين بن باريك، ومحمد ولد أحمدو، وآبّ ولد الطالب عبد الل، وعبد الله ولد أهل أحمد، والمحفوظ ولد دحانه، وعبداتي ولد أحمدُّو، وديدي ولد عبد المالك، وولد ان ولد امحيمدات، ومحمد عبدُ الله ولد أبا الحسن، ومن الشيوخ الزعماء: سيدي ولد حنن، وسيدي المختار ولد محمدي، وامحمد ولد كدادو ولد لفراري، ومولاي اعل ولد مومن، واب ولد اكيك، وديبه ولد الشين، وحمود ولد امخيطير، وإزيد بيه ولد أحمد ولد النيه، ومن الأكابر والأعيان: مولاي أحمد ولد المرتيجي، ومولاي عبد الرحمن ولد الذهبي، واب عيني ولد سيدي الحاج، وابراهيم ولد دفناج، وفالي ولد شنان، وأعمر ولد ارويكب، وخطاري ولد اسويدي، واللكاي ولد مولود، وخي ولد جواري، وشيخنا ولد موري، ويحدثنا رحمة الله عليه عن جميع هؤلاء، لكونه التقاهم وتبادلوا الصِّلات العلمية وجمعت بينهم الاهتمامات، في صنوف الحياة.
وأخيرا..
أخلص إلى أننا لا نعطى أعلامنا ورجالاتنا البارزين ما يستحقون من نعي لائق وتذكار مناسب، ولا ننزلهم منازلهم التي تبوءوها، في الوقت الذي يصنع آخرون من نكرات معينة هالات (منفوخة) من شَوْك.
آلت حياة الداه محمد مالك بعد هذه المسيرة الحافلة بالمشي في مناكب الأرض ومراحل التجريب في الحياة إلى اعتكاف في خيمته الوارفة أولا ثم لزوم بيته العامر ثانيا، منقطعا عن تلك الاهتمامات السابقة، إماما للمكتوبات وصلاة التراويح، نَدِيَ الصوت عندما يؤذن، زاهدا زهدَ المتقدمين، وعُرف بالصلاح وكثرة الذكر والعبادة والورع، فكان فصيح اللسان رطبه بذكر الله، وأوتي طرافة ولطفا، رغم تغليبه للجِد وعزائم الأمور، عندما يأنس الجميع في مجلسه الذي لا يخلو من المُلَح وسِير الصالحين، وسرد وقائع التاريخ وبطولات الرجال، مما يضفى على مجلسه الوقار والراحة التي يحتاجها المستمع والمتعلم.
وكانت عصاه وسبحته وسجادته ومذياعه جزء من مجلسه، ووطّأ نفسه على هذه الأربعة ملازمة وألفة، وكان دأبُه مذاكرة العلماء وإرشاد الضوال والتعرض لقضاء الحوائج -في الحل والترحال- وفي سباق دائم مع أهل العُلى إلى الخيرات، وساد هذا الرجل الصالح ببذل الندى وكف الأذى ونصر المولى، وفارق الدنيا تقيا نقيا يوم الجمعة بعد أن صلى صلاة الوسطى (الصبح) 25 – 12 – 2020، عن عمر قارب المائة، وإن بقِيَ لصلاحه متمتعا بعقله ونظره واقفاََ ماثِلاََ بثقة ورسوخ، وبموته تُطوى صفحة الرجل الأمة في الفقه وعلوم الشريعة والحقيقة والعبادة والاستقامة والزهد والكرم والمروءة.
وهنا يحق لى أن أنشد مع المتنبي:
من لا تشابهه الأحياء في شِيمٍ@أمسى تشابهه الأموات في الرِّمَمِ.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
عبد المالك ان ولد حنى، كاتب.
زر الذهاب إلى الأعلى