سياسيكتابنا

الحق أحق أن يتبع/ مولاي عمر ولد مولاي ادريس

مادامت الأمة لم تُصالح ذاتها ، وتقبل أن يُقال إن كل شخص عدا الأنبياء، يخطئ ويصيب ، وليس من العصمة في شيئ ، وأن يقال إن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق ، فلن تقوم لها قائمة ، وستواصل انحطاطها حتى تصبح نسيا منسيا ، فشرط وجودها اتباعُ الحق ، والوقوف عنده ، وهو المبدأ الذي تأسست عليه ، وسادت به ، وإذا فُقد جوهر الشيئ انعدمت قيمته ، وأصبح كالعدم وجوده . إن أكثر ما يؤرق من يحاور بعض الذين يزعمون امتلاك الحقيقة ، كونُهم يعانون من أمراض عقلية فتاكة ، أكثرها خطرا هو : وحدة المعيار ، وتعدد الأحكام : فتراهم ينكرون الشيئ لذاته ، ويرون أنه جرم ، ولكنهم يخالفون أنفسهم حين يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يرتكبون هذا الجرم ؛ فتجدهم يبحثون عن مخرج لهذا ، ويفسقون ذاك ، لأن هواهم يميل إلى الأول ، ويبغض الثاني ، وهنا ضاع المقياس أو المعيار ، وحكمت الرغبات والأهواء ، ومن ثم فعلى الحق السلام ؛ حيث يغلب الموضوعية الانحياز ، وتطغى العصبية والتعصب ، ويحل التعنت محل التسليم للحق ؛ ويفقد البحث بوصلته ، وتتغير وجهته ، وتلحظ أن العمل على إيجاد المبررات والمسوغات لمن تميل إليه النفس ، صار أكثر أهمية وأولوية من طلب الحق ، وتغليبه . فإذا كنا نقول ـ مثلا ـ إن التطبيع مع الصهائنة جرم عظيم ، ونختم ذلك بختم توكيد وقطع ، وتمر الأيام ، فيقوم بالتطبيع رجلان ، أحدهما نجده إلى قلوبنا أقرب ، وثانيهما نعده من الأعداء ، فنحكم على الأول بأنه رجل صالح لم يفعل مافعل إلا لجلب مصلحة ودرء مفسدة ، ونحكم على الآخر بأنه وقع في جرم عظيم ، فإننا نكون من أعداء الحقيقة ، ومن المتاجرين بالمبادئ ، الذين يرمون بالحق عرض الحائط إذا لم يتفق مع مايريدون . ما نقوم به هنا ، هو ما يسميه الدكتور فتحي يكن بالتبريرية ، ويقول إنها ” منهجية شيطانية (…) ( وإنها تقوم) على تلمس مبررات شرعية لأخطاء مرتكبة ، من شأنها طمس الحقائق ، وإقفال الملفات ، وعدم الاستفادة من التجارب ، وتقديم فتاوى شرعية موهومة ، للهروب من الأخطاء بدل الاعتراف بها ، والوقوف عندها (…) (و) هذه المنهجية ليست إلا تحايلا على الشرع والتفافا على الحقيقة وإصرارا على المعصية ” 1 . ومادام الحق غايتنا ، فينبغي أن نخلص له ، و أن لا يكون إخلاصنا للأشخاص ، وأن لا يجرنا عداؤنا إلى الصدود عن الحق بدافع التعصب ، والميل إلى الشقاق والخلاف ، فالأولى أن نكون حيث تكون الحقيقة ، فإن ضاعت ضعنا جميعا ، فإن قوما ضاع الحق بينهم ملعونون ” لعن الله قوما ضاع الحق بينهم ” 2 ، وليست أهواء الناس ، ولا ميلهم ذا سلطة على الحقيقة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ” أمرت أن أقول الحق ، ولو كان مرا” 3 ، ويتضح من هذا أنه لا يوجد أحد فوق الحق ، ولا يوجد موقف مطلق صارم إلا في مجال اليقينيات ، فكل أمر خارج عنها يعتبر قابلا للاختبار والامتحان حتى يتبين خيطه الأبيض من الأسود ، و أنه ينبغي أن يُصدع بالحق أحب من أحب ، وكره من كره . العقل نور الله ، ولا ينبغي تعطيله ، ولا إرغامه على قبول المتناقضات ، فإنها مما يرفضه بالفطرة ، فالفكرتان المتناقضان لا بد أن يكون بينهما ترجيح ، وهذا من مقتضيات الوقوف عند الحق ، ومن مبدئيات ، وبدهيات التقييم ، أما أن يظل الأمر مائعا ، يتردد فيه العقل لايهتدي إلى رشد فإن ذلك مأرب المسفسطين الذين يحاربون الحقيقة . وإذا اتفقت الأمة على مبادئ ثابتة وأحكام صارمة ، ومعايير قارة ، واتحد المجتمع على مجموعة من ” المدركات ” يتفق عليها فكرا وانتماء ، ومثالها ” حب الوطن واجب ” ، و” التحالف ضد الوطن خيانة ” و” التخلي عن فلسطين جريمة نكراء ” والتطبيع مع صهيون عار لا تغسله مياه البحار” إلى غيرها من المبادئ ، والمدركات المستقاة من الشريعة الإسلامية ، والفطرة السليمة ، إذا اتفقت الأمة ، على ذلك ، ولم يكن فيه ما يخالف شرع الله ، فإن من يخالفه يعد خائنا للقيم والمبادئ والفطرة ، سواء أنكر الأمر أو برره ، فما دمنا نسلم أن المدركات التي أشرنا إليها لا تعارض الشرع ولا الفطرة فإنها بذلك توافقهما ، وهما المرجع الأول لمجتمعنا الإسلامي ، فإن وجد من يخالفها ( أي تلك المدركات) ، ويحاول تقديم مسوغات لفعله، فعلينا أن نكون له بالمر صاد ، فإنه سم زعاف ، ومسفسط يمكن أن ينقل عدواه إلى بقية المجتمع ، وما تهدم أسه ، تفرق كله . كثُر في وطننا ، وفي أمتنا العربية الإسلامية ، من يسير على قاعدة أصلها واه ، ومادي حتى النخاع ، وشيطاني المبدأ ، أعني قاعدة ” الغاية تبرر الوسيلة ” ، حيث انتشر ، في الآونة الأخيرة ، أقوام يبيعون القيم والثوابت بالمصالح ، ويجادلون في ذلك ، ويدافعون عنه بضراوة ، يريدون أن يجعلوا من الباطل حقا ، وهم ليسوا بلهاء إلى درجة العجز عن تقديم منطق سلبي يقنعون به بعض الدهماء ، ويضللونهم به ، ولكن الحقيقىة ، رغم ذلك تبقى قائمة ، يدركها العقل والفطرة السليمة . هؤلاء ، كانوا يعملون تحت جناح الظلام ، ويبثون سمومهم خفية ، ويستخفون بأقنعة الاستقامة ، والدفاع المتصنع عن المبادئ والقيم ، ولكنهم ، حين حوصر رجال الحق وشردوا ، وشُنق بعضهم ، وكُفِّر البعض ، واتهم بأبشع الاتهامات ، وصار العالم العربي كالناقة العشواء ، وجدوا مواضع راسخة لأرجلهم ، وتصدروا الأمة ، وهيمنوا على المنابر ، وحجبوا كل من يخالفهم ، وطعنوا في مصداقيته ، وجرحوه ، ومشكل العامة أنهم قطيع يحدوه آخر من تبعه ممسكا بعصا. وبذلك بدأت المدركات الجماعية للأمة تتخلخل ، وتهتز ، وتغير شكلها ، فأصبحت القضية الفلسطينية قضية ثانوية ، وصارت معاداة الوطن أمرا عاديا ، بل تقربا إلى الله ، وأصبح مدمرو العراق ، وبورما ، وليبيا ، حلفاء وأصدقاء للعالم الإسلامي ، وأصبح الشيعة كفارا بشكل مطلق ، بعد أن كانوا طائفة ” ضالة ” أو منحرفة بعضها دون بعض ، وأصبح الولاء للأشخاص لا الإسلام ، حتى إنك لتحاور الشخص فتستشهد بقول الله < لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا > فيقول بل أشد الناس عداوة للذين آمنوا إيران ، ويبدأ بتقديم مبرراته ، ليقنعك بما يخالف أكبر مقدساتك . إن التكفير السياسي ظاهرة طغت وسادت في العالم العربي ، وأكبر المتترسين بها ، أصحابُ الحجج الواهية ، والعقول المجدبة ، وهم الذين قفزوا على مدركات الأمة وبدلوا فيها وحورا ، ليُدافعوا عن مصالح دنيوية ، ورغبات فانية . والواجب يفرض على المجتمع أن يحاججهم ويناقشهم ـ إن قبلوا ذلك ، فدأبهم التكفير ، والاتهام ، والهروب ـ وأن يفضح منطقهم الماكر بالمنطق السليم الذي توافقه الفطرة ، فقد تختلف الفكرتان ، وتقوم كل منهما منطقيا ، لكن لا بد أن تتفوق إحداهما ، من حيث قوة البراهين ، والأدلة ، فتغلب ، ويؤخذ بها . والثوابت والمدركات الجماعية التي تحدثت عنها معيار واضح لتمييز الغث من السمين ، فمن اعتبر ” إسرائيل ” عدوا ثانويا ، فهو خائن ، ومن كان ولاؤه العابر لحدود وطنه أكثر وأرسخ من ولائه لوطنه فهو خائن ، ومن كان يعرف الحق بالرجال فهو محارب للحق …إلخ لن ندخل في تحديد مفهوم الحقيقة ، لتشعبه ، لكننا نقول إنها بينة وواضحة ، فإذا أُوثِرت عليها أشباه الحقائق ، فاقرأ على الأمة قوله تعالى < إنا لله وإنا إليه راجعون > . وإذا مُست المدركات الجماعية ، وزعزعت ، فاعلم بأن المجتمع آيل إلى الانشطار والانقسام ، فالكفر والإيمان بمبدأ واحد لا يمكن أن يتعايشا في المجتمع نفسه إلا فترة مؤقتة .. ولنا في تاريخنا مثال حي ، فالمصدران الأساسيان للتشريع عندنا، كمسلمين ، كانا الكتاب والسنة بالاتفاق في المرتبة الأولى ، والإجماع والاجتهاد والقياس ، في المرتبة الثانية ، لكننا في مرحلة لاحقة ، أصبحنا نهتم بالمستنبطات أكثر مما نهتم بالأصول ، فأصبحنا اليوم ـ إلا من رحم ربك ـ نقدم الأولى على الأخيرة ، فتناحرنا ، وتقاتلنا ، وتفرقنا ، ولو أننا قدمنا الأصل الأساسي(القرآن والسنة) ، واعتبرناه معيارا لصحة غيره من عدمها ، واتفقنا على ذلك لما حدث شيئ مما حدث ، فالواقع أننا صرنا أمام أصول جديدة نؤمن بها ، لاشعوريا ، ونميل إليها أكثر مما نميل إلى الأصول الأولى ، فتجد الصوفي متعصبا لرأي شيخه ، وتجد “الجهادي” متعصبا لقول أميره …إلخ ، لا أحد يبالي هل قول من يتبعه يوافق أو يخالف كلام الله وسنة رسوله .. وكذلك فإنه إذا لم يتم وأد هذه الأمراض التي تصيب مجتمعنا ، وقيمنا وثوابتنا ، فإنها ستتحول شيئا فشيئا إلى مدركات جديدة ، فيتجذر الانقسام ، ويصبح بأسنا بيننا شديدا ، فيخرج من جلدتنا عدو ذو بأس شديد علينا ، فنخسر كل قضايانا ، ونصير من سقط المتاع تمر علينا الأمم فتركل قبرنا ، وتقول ، كما قال الجنرال غورو ” ها قد عدنا يا صلاح الدين”.

1ـ د.فتحي يكن ـ قطوف شائكة في حقل التجارب الإسلامية ـ

مؤسسة الرسالة ناشرون / دمشق ،سوريا ـ 2007ـ ط1ـ ص13 2ـ حديث منقول عن الكتاب نفسه .ص 30 3ـ متفق عليه.

مولاي عمر ولد مولاي ادريس

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى