كتابنا

ورثة علي بابا.. / صلاح الجيلي

زوجة خالي رحمه الله ,لها في عنقي دين لا أستطيع رده ما حييت , كانت وهي خريجة المعاهد الفرنسية و المُولعة حينها بالأدب الفرنسي والأوربي عموما , تستقطبنا ونحن صبية كل مساء , تأخذ قصة و تقرأها فقرة فقرة , وتترجمها بأسلوب تشويقي أدبي رائع و رائق جدا , كنا نلتف حولها رعبا و هي تترجم لنا قصص تشويقية , كنا نراها رعبا في وقتنا المبكر ذاك , أو نتحدق بها مشدوهين وهي تحكي قصة علاء الدين و المصباح السحري ,لكن قصتي المفضلة كانت القصة الشعبية والتي أصبحت عالمية , ربما لفرط ما كثر اللصوص , علي بابا و الأربعين حرامي .
لم أكن أفهم القصة ,كما يُرادُ لها أن تُفهم من سياقها ,و هو المعروف لدى كل من قرأ القصة أو سمعها , كانت تأخذني لأبعاد أكبر من سني حينها ,وكانت زوجة خالي تلمس مني ذلك ,فلكأن عينيها وهي تُترجم وتُفسر تقول لي , هذا التفسير ليس لك , بالتأكيد في ذهنك تفسير آخر , وأحيانا أغرد بعيدا لآتي بفكرة ما أو تلميح غاب عن علي بابا وزمرته , فتُمازحني قائلة , يبدوا أنك ستكون لصا عظيما , ما هذه الأفكار الجهنمية , في حقيقة الأمر ,لم تكن تلك الأفكار وليدة تميز عن أقراني و لا ذكاء يبزهم ,لكنها كانت من منطلق سؤال واحد بشقين , و هو سؤال رغم أنه صبياني جدا وفي مرحلة مبكرة من عمري إلا أنني كبرت معه ولازال بنفس الصيغة وحتى الإلحاح , لماذا نسرق ,وهل تجعل منا السرقة أبطالا تُخلد أسماؤنا .
روبن هود الصعلوك الإنجليزي ,والذي يُعد في أدبهم فارسا متمردا ومساندا لفقراء شعبه , هو في حقيقة أمره ليس إلا سارقا ولصا ,حتى و إن كان تبريره لما يفعل الثورة و التمرد على الملك , كان بإمكانه أن يسلك طريق الفرسان وهو الخطيب المُفوه فيجتمع له الناس وكل المتضررين من سياسة جون , وليسر بهم نحو ثورة كانت لتخلده كبطل لا يُنسى , لكن لماذا سلك طريق النهب و السرقة , قرأتُ كل ما وصلته يدي عن روبن هود من مصادر عربية و إنجليزية ,فوجدت أنَ السبب الرئيس , هو المناخ السائد , هناك لا يحتفي الناس إلا باللصوص المميزين الذين يحظون بشهرة سريعة , خاصة مع دعاية تنطلق من لسان لأذن للسان لا تتوقف حتى يُصدقها الجميع , مع أن قلة قليلة هم من رأوها واقعا ,وهي في حالة روبن هود , أنه اللص الظريف ذوالرمية التي لا تُخطأ , وفي جو مشحون بأخبار الحروب الصليبة و التمرد الداخلي و قلة المؤن و ازدياد البؤس ,كان الناس يرون في قصص روبن هود ملاذا للتوقف عن التفكير في حالهم و أحوالهم , ويجدون في ما يفعله من سخرية بالملك و قراراته سلوى وعزاءا ,لما يفعله بهم الملك من منعهم من الصيد وسلب للأراضي ,هنا أصبح اللص بطلا , تماما كما هو الحال في الهند , فاللص هناك بطل يستحق الشفقة , حتى و إن تضرر منه الجميع , بينما الشرطي الذي يُطارد اللص , هو جبان و نكرة لا يستحق أي تمجيد .
قصة علي بابا و الأربعين حرامي ,تُرجمت للكثير من لغات العالم ,إن لم يكن كلها ,فلا أحد لم يسمع به ,ولن تجد أحدا يذكر اسمه إلا و ابتسم بعدها , بالرغم من أنه لص , وفي جميع ثنايا القصة ,ليس هناك ما يدعوا للابتسام , وقد لا تكون القصة الحقيقية هي نفسها التي وصلتنا , لماذا إذن يجد الناس للص طرافة تدعوا للابتسام , بل وأحيانا تقول لأحدهم ,أنت تشبه علي بابا فيبتسم , تصور معي لو كان علي بابا لم يسرق مغارة مليئة بالكنوز ,هل كان ليذكره أحد , بل تصور معي لو كان فقط سرق عقدا زهيدا أو خاتما واحدا ,هل كان ليذكره أحد كزعيم عصابة , ماذا لو لم يُفتضح أمره ,هل كان في طريقه لسرقة خزينة الدولة مثلا ,إذا صدقنا بأنه لص وزعيم عصابة محترفة ,فماذا ينقصه عن التخطيط لسرقة أكبر ,ليس التمويل وبيده كنز عظيم و ليس نقص الرجال ومعه أربعين لصا يُطيعونه , السبب الوحيد برأيي هو أن علي بابا لم يكن لصا بقدر ما كان صياد فرص , فاللصوص لا يتوقفون عن السرقة إلا في الوقت الوحيد الذي يكونون فيه في السجن , أعني اللص الذي ولد ليكون لصا .
كبرتُ و كبرت معي تساؤلاتي , لماذا نسرق و لماذا تتطور السرقة لنهب و سلب , هل يحدث ذلك فقط عندما تتحد اللصوصية مع السلطة , بمعنى , أن يكون اللص هو رأس السلطة , فيخلعُ رداء اللص , يرمي بقناعه و يكشف وجهه الحقيقي , يبدوا ذلك أكثر راحة و أجدى ,و لكي يعرف اللصوص الصغار مرجعيتهم فلا يتجاوزوها , بل و ليؤدوا لها نصيبا معلوما , هنا يسمح اللص الأكبر ببيع رخص غير ملموسة لصغار اللصوص , و هي إذن بفعل السرقة مع بند خفي لا يحتاج لشرح أو تفسير , اسرقوا ثم أحضروا حصتي , هنا يعمد اللص الصغير , حاكما كان أو واليا أو برلمانيا أو وزيرا أو مدير , يعمد لزيادة ذلك التفويض برشة من توابل سلطته , و بدل أن يكتفي بالسرقة فقط , يزيد عليها بنهبِ أو سلبِ , ذلك لأنه يجد أن فعل السرقة لوحده ليس كفيلا بإشباع نهمه , خاصة مع الحصة الكبيرة التي ستؤول لرئيسه , و عندما يتكاثر أمثال هؤلاء و يكثر ظلمهم , يخرج اللص الأكبر في ثوب من البراءة عجيب , و يصرخ مستلا سيفه الخارق لمحاربة الفساد , هو لم و لن ينسى أنه من صنعهم , لكننا و للغرابة نصدقه , فنحنُ في النهاية لم نقف عليه متلبسا بجرم سرقة المغارة , و حتى أثاره يجتهد الأربعون حراميا في طمس معالمها , فما هو الحل ؟؟
الحل يكمن في نفوسنا , و لن يخرج إلا عند التوقف عن الإعجاب بالروبنهوديين المزيفين , التوقف عن تلميع أحذية اللصوص المتربة من غبار مغارتنا , أن نصِم اللص و نصفه باسمه , أن نُعريه من ألقاب لا يستحقها , فكل من ترونهم أمامكم هم الورثة الشرعيون لعلي بابا , لكن بالتأكيد هذه المغارة ليست لهم , هذه مغارتنا , أما هم فيوما ما ستضمهم جدران سجن أو جدران قبر.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى